بصحبة الجادرجي، بحثاً عن فكتور هورتا

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
11/10/2010 06:00 AM
GMT



 مازلت اعتقد، بان حركة (تيار؟) "الفن الجديد" في العمارة، الذي استمد اسمه وشاع عالميا من تسميته الفرنسية "آر نوفو" Art Nouveau، لم "يـُنصف" نقدياً، كما ان تكرار تقييمه بالسلب، في ادبيلت النقد المعماري لم يكن موضوعيا.. ايضاً. هل ياترى، ان باعث ذلك التقييم السلبي يُعزى الى سرعة اسدال الستار عليه ونسيان منجزه بسبب ظهوره المفاجئ، المعشي للابصار، ومن ثم خفوته السريع عن المشهد المعماري؟ ام ان ذلك يُنسب الى قصر فترة نشاطه التى لم تمتد سوى نيف وعقدين من الزمان؟؛ ام يرجع الى شغف "الآر نوفيين" بفنطازيا الابداع الذاتي والتغاضي عن مبادئ " تكتونية" العمارة، والهرولة وراء تأثيرات الزخرفة المبالغ فيها واشكالها الجديدة؟
اياً تكن الاسباب، فاني مازلت اعتبر تلك التقييمات بمثابة احكام تنطوي على مفهوم احادي الجانب، وما انفكيت اعتقد، بان هذا التيار (واعتبره "تيارا" متكاملا، رغم تحفظ بعض النقاد على هذه التسمية!) القصير في الذاكرة المعمارية، انجز الكثير، والكثير جداً. اقله انه نظف الطريق امام مسار العمارة اللاحق "كانساً" جميع ثوابتها وقيمها السائدة في مطلع تسعينات القرن التاسع عشر، باعلانه قطيعة ايبستمولوجية تامة لكل ماهو معروف وثابت ومتجذر في مفهوم العمارة وقيمها وتقيماتها آنذاك، فاتحاُ بذلك المجال واسعاً امام الحداثة، الحداثة المعمارية بكل تجلياتها وحيوية تياراتها المتعددة والمتنوعة. نحن اذن، نتكلم عن "مأثرة" معمارية، قام بها مؤسسو تيار "الآر نوفو" لم تقيم في وقتها تقييما موضوعياً، لكنها نالت القبول والاهتمام لاحقاً بزمن آخر، بعد ان انجلى "غبار" المعارك التى خاضوها في تكريس حركتهم كحركة جادة ومجتهدة في المسار التطوري للعمارة. انها مثلت، من دون شك، بدء الحداثة، "البدء" المتسم بالعنفوان والقطيعة معا، والتائق الى ترسيخ قيمه بشكل ينطوي على التعظيم، والمجاهرة التى لا تعرف المساومة.
تصادف وجود زوجتي وانا مع وجود المعمار رفعة الجادرجي في بروكسل مؤخراً، للمشاركة في نشاط ندوة احياء ذكرى كامل شياع المثقف المتنور، والمثقف "العضوي" بلغة " جورج لوكاش"، بكل دلالات تلك الكلمة، هو المحب للثقافة العراقية والساعي الى ترسيخها وديمومتها ضمن قيمها الانسانية التى اتصفت بها. وكامل، كما هو معروف، تم اغتياله غدراً في بغداد قبل سنتين، من دون ان تعرف الجهة التى اغتالته لحين الوقت الحاضر، رغم مطالبة عائلته واصدقائه الجهات الرسمية مرارا بذلك. وباغتياله فقد انطفأت تلك الشعلة الوهاجة التى سعت بجد مع آخرين الى رؤية العراق: وطناًً ديمقراطياً تعددياً، يكون مشهده الثقافي حافلاً باجناس ابداعية مختلفة. وقام على تنظيم تلك الندوة محبو كامل وافراد عائلته، بالاشتراك مع ادارة كلية الفنون الجميلة "البوزار" ببروكسل، اواخر شهر ايلول من هذه السنة. 
 
 وبروكسل هي عاصمة "الآر نوفو" بامتياز. وقد اشتهرت العاصمة البلجيكية بكونها شهدت "ديبو" الظهور الاول لنماذج تلك المقاربة المميزة والممتعة في آن، واقترن اسمها دوما باسم معمارها الشهير "فكتور هورتا" Victor Horta، هو المولود في مدينة "جينت" Ghent، الواقعه شمال غرب العاصمة البلجيكية، عام 1861، والمتوفي سنة 1947 في بروكسل، المدينة الحاضنه فضآءاتها خيرة ما صممه هذا المعمار البلجيكي "الآر نوفوي" الشهير. وقد انعم عليه ملك بلجيكا بلقب "بارون" عام 1932 نظرا لابداعاته في مجال العمارة. كما ان منظمة "اليونسكو"، قد اتخذت قراراً في عام 2000 بتسمية مبانٍ مصممة من قبل هورتا ضمن لائحة <مواقع التراث الثقافي العالمي>، الواجبة الحفاظ والبقاء، وكلها تقع في بروكسل. وقد انطوى قرار المنظمة العالمية على اهمية استثنائية، في ضوء تعرض تراث هورتا البنائي الى عدم اكتراث وحتى الى التلف والهدم في العقود الاخيرة. فعلى سبيل المثال، ان "بيت الشعب" Maison du Peuple، المبنى الرئيس لحزب العمال البلجيكي في بروكسل، والذي صممه "هورتا" مابين 1895-99. والحاوي على مبانٍ عديدة من مكاتب ادارية وغرف للمناقشات وقاعة كبيرة للاجتماع تسع لـ 2000 مقعد، فضلا على فضاءات خدمة من مطاعم ومقاه وما شاكل ذلك. تمت ازالته بالكامل سنة 1965، رغم ما كان يمثل ذلك المجمع من اهمية فائقة معماريا وثقافيا؛ ورغم اعتراض واحتجاج اكثر من 700 معمار تجمعوا من مختلف دول العالم، للوقوف ضد قرار الازالة، ولكن من دون جدوى. وقد عدّت واقعة الازالة تلك، بكونها من افظع الجرائم المعمارية التى ارتكبت في عموم القرن العشرين!.
يزور كثر من الناس المباني المهمة في المدن المختلفة، كي يتعرفوا عن قرب على تلك التى امست عمارتها تمثل "ايقونة" المدن ووجهها المميز. يزورها ايضا المعماريون، لمشاهدة اساليب معالجاتها التكوينية، وتحسس مقياسها الحقيقي، وهي "تعمل" في الطبيعة، بجانب مجاوراتها من المباني الآخرى. اسعى انا ايضاً وراء مشاهدتها في المدن التى ازورها؛ ولا سيما تلك المباني التى اعرفها جيداً، او سبق لي ان درَسَتها، او درسّتها الى طلابي طيلة سنين عديدة. أجد متعة كبيرة وانا في "حضرتها"، انها لي بمثابة "اصدقاء" اعزاء، اطلع على اساليب معالجات تكويناتها وطرق توزيع فضاءاتها، متفحصاً تآلف عناصرها، ومتعرفاً على طبيعة موادها وطرق انشاءها وتنفيذها.
بالطبع عندما تتاح الفرصة، وانت في بروكسل، لابد وان يحضر "فكتور هورتا"، عمارته التى تشكل لي "أجندة" منهاج ممتع ومفيد، استعيد به تفحص مقاربته التصميمية "الآرنوفيه" وامكانية رؤية نماذجه التصميمية. 
 
 ومع إن "الآر نوفو"، وكما اشرت سابقاً، ظل دائما مادة لتقييمات رؤى نقدية مختلفة؛ فاني شخصيا ميّال الى الاعتراف باهمية دوره الاساسي لجهة تمهيد الارض و"حرثها"، لنمو تيارات الحداثة المعمارية بكل اجناسها. ذلك لان "الار نوفو" استطاع، بجرأة، ان يجترح طريقاً آخراً للعمارة، طريق يقطع الصلة مع كل ما شاع سابقاً من اساليب معمارية، وفي الوقت عينه، يتعاطف (وحتى يتبنى) مقولات الناقد والمعمار الفرنسي "فيوليه لو دوك" المرهصة بالجديد والتائقة لرؤية مقاربات معمارية قادمة تراعي خصوصية المواد الانشائية بحيث يغدو <الحجر- حجراً، والحديد- حديداً، وان يكون الخشب – خشباً!>؛ كما كتب مرة، في كتابه "حورات" الصادر في ستينات القرن التاسع عشر. من هنا يتعين ادراك قيمة تلك "المأثرة" التصميمية التى اشتغل عليها فكتور هورتا ورفاقه "الآر نوفيون"؛ عبر ايجاد، ولا بأس من التكرار، قطيعة معرفية مع الاساليب المعمارية السابقة، واقتراح بدائل تصميمية لعمارة مميزة وجديدة في آن.
سعى "فكتور هورتا"، كأحد المؤسسين الاساسيين لتيار "الآر نوفو"، ان تكون عمارته انعكاساً واضحا للخصائص المميزة التى طبعت ذلك التيار، من حيث الكف عن محاكاة الطرز المعمارية التاريخية وتقليدها. وحرص على منح المواد الانشائية الجديدة ولاسيما الحديد والخرسانة المسلحة، دوراً اكبر في العملية التصميمية، وعدم اخفائهما تحت طبقة من الجص او الحجر الطبيعي، كما كان الامر سائدا في السابق. ويعتقد هورتا، بان المعالجات المعمارية يتعين ان تراعي مزايا هذه المواد وتظهر خواصها. ولا سيما انسيابية الخرسانة المسلحة، القادرة على التشكل في اي "فورم"؛ مع التركيز على خاصية مطاوعة الحديد ولدانته. وكمتل اقرانه "الآر نوفيون"، فقد دعا "هورتا"، الى توظيف واسع للفنون التشكيلية في العملية التصميمية. واعتبار مهمة استخدامها، كمفردة ملازمة في التكوين "الآر نوفوي". وقد طالب ان يكون هذا الاستخدام حاضراً وبكثافة سواء في معالجات الهيئة الخارجية للمباني المصممة الاكسترير"؛ اوفي فراغلتها الداخلية "الانترير".
يتوق فكتور هورتا، (كما يتوق معماريو "الآر نوفو" بعامة)، الى جعل ظاهرة المناسيب متباينة الارتفاع حالة محببة، واحياناً وجوبية في الحل الفضائي – الفني لفراغات المباني التى يصممها. من هنا اضحى عنصر "السلم" بمناسيبه المختلفة، مدار اهتمام وولع "هورتا"؛ جاعلا من هذه المفردة المعمارية منطلق العملية التصميمية، وفي كثير من الاحيان غايتها!. بيد ان الاهم في خصوصية عمارة "هورتا" يظل اسلوب تعاطيه مع الصياغات التكوينية – الفراغية الجديدة في تنظيم الفضاء الداخلي للمباني التى يصممها. خصوصا في تلك "الدارات" التى صممها لممثلي الطبقة الوسطى "البروكسليه". اذ بالاضافة الى النزعة الوظائفية الواضحة، في تشكيل فراغات تلك الدارات، والتى اعتبرها هورتا بمنزلة الهاجس الحقيقي لمفهوم العمارة الجديدة، ثمة تناسب خاص ومميز ومحبب يحضر حضورا بليغاً في الانترير "الآر نوفوي"، بالضد مثلا من كبر المقياس المتبع وضخامته في فضاء الانترير الكلاسيكي!.
نعرف، اذن، بان ثمة اربعة مبان في بروكسل مصممة من قبل "هورتا" هي الآن ضمن لائحة اليونسكو وهي: "بيت تاسيل" (1893-96)، وبيت " وينسسنجر" (1894-96)، و"بيت فان ايتفيلد" (1895-97)، واخيرا "مسكن هورتا ومكتبه" (1898-1901)، والاخير "متحف هورتا" في الوقت الحاضر. وعلينا نحن الثلاثة: زوجتي، ورفعة، وانا زيارتها وغيرها من الابنية، لرؤية تطبيقات خصائص "الار نوفو" وهي مجسدة في مبانٍ واقعية ومشيدة. اذكر اني لسنين عديدة، كنت اشرح لطلبتي اهمية "بيت تاسيل"، واشير اليه كمثال معبر الى "الآر نوفو" كما افردت له مكانة خاصة في كتابي "مئة عام من عمارة الحداثة" الصادر في سنة 2009 بدمشق. لم يتسنَ لي سابقا ان اشاهد البيت واقعيا، مثلما لم اشاهد بقية تصاميم هورتا على الطبيعة. الآن، تبدو، ثمة فرصة متاحة الى ذلك، مضافاً اليها متعة حضـور "رفعة الجادرجي" ومصاحبته لنا في تلك الجولة المنتظرة.
والجادرجي، كما هو معروف، احد أهم المعماريين العرب، ان لم يكن اهمهم. وله مقاربة تصميمة شكلت اضافة كبيرة ومميزة في منجز العمارة الاقليمية، وبالتالي في منتج العمارة العالمية. وهي وان لم تحظ َ بالانتشار والاهتمام لدى وسائل الاعلام، وبالتالي عند فئات عديدة في المجتمعات العربية، فان ذلك لا يقلل من استثنائيتها وفرادتها من بين عموم عمارة الشرق الاوسط. ومنجزه التصميمي، كما اراه، لا يقل، باي حال من الاحوال، عن منجز المعمار البلجيكي الذي نسعى وراء رؤية تصاميمه في شوارع بروكسل وفي بيئتها المبنية. بل واجرأ لاقول بانه يفوقه قيمة وأهمية. ذلك لان فكتور هورتا، حتى وإن ظل يمارس العمارة لوقت طويل، بعد روائعه "الآر نوفيه" في تسعينات القرن التاسع عشر (توفي، كما ذكرنا سنة 1947)؛ فان مجموع ما انتج طوال تلك الفترة الطويلة، لا يوازي، في رأي كثر من النقاد، ما انتج في ذلك "العقد الفريد" من أواخر ذلك القرن، الذي ابدع فيه عمارته المتجددة والمعبرة. ومع هذا فقد حظى ذلك المعمار المجد بتقدير عال ومتنوع، يليق بمنجزه التصميمي، بالضد من مصير صديقي الذي يصاحبني الآن في جولتنا الآرنوفيه، اذ ظل يصمم 
وينتج طيلة ثلاثين سنة او نحوها، وهي الفترة التى اتيحت له الاشتغال في وطنه، مبدعاً عمارته المدهشة، والتى لا تقل تنويعاتها الاسلوبية وفرادتها اثارة للدهشة، عبر ثلاثة عقود من العمل الخلاق. قبل ان تجهض الديكتاتورية البغيضة نشاطه، وتحيله خلف <جدار بين ظلمتين>؛ بقسوة متناهية وبظلم فادح. ولم يسعفه الا "الخارج"، الذي كُتب ان يعيش فيه، بعيدا عن وطنه وعن مكتبه الاستشاري.
والامر،بالطبع، لا يتعلق باجراء نوع من مفاضلة بين المعمارييّن، لكن الاجحاف المؤلم الناتج عن وقع المقارنة، بين ما ناله المعمار البلجيكي من تكريم واحتفاء، (وهو جدير بها تماماً، كما ليس من دون دلالة، اشارتي السابقة، الى واقعة منحه لقب "بارون")؛ وبين ما وقع على صاحبي من تعسف وجور وتغاضٍ واضطهاد، لا يستحقها بالمرة، تحيلنا تلك المقارنة الى بؤس وضع المثقف المتنور، والمجدد، والرائد في ثقافتنا العربية بعامة، وفي الثقافة العراقية على وجه الخصوص. والاخيرة بدأت وكأنها في سباق للتنصل عن مثقفيها، وتناسي ابداعاتهم الرائدة والقيمة. ورغم الضبابية الطاغية الآن في المشهد الثقافي والمهني، وحملات التضليل والتناسي، فاني على ثقة، بان كثراً من المعماريين الشباب العرب في قادم الايام، سيقرون بالديّن لرفعة الجادرجي عليهم، وسيدرسون نتاجه الهام والمتنوع والغزير، واجدين فيه الهاماً لافكار وتقصيات ستقود الى مقاربات معمارية جديدة. لكن الاسترسال في هذا الموضوع المثير للشجون، ليس مكانه هنا طبعاً.
عندما وقفنا ثلاثتنا في جو ماطر، امام "بيت تاسيل" الواقع في احد شوارع بروكسل السكنية الهادئة، عمارته التى ارخت، وفق رأي كثر من النقاد، للظهور الاول لطراز الآر نوفو، كنا نقوم ما قام به كثر بزيارة ذلك المبنى ذا المقياس المتواضع، ومشاهدته والتعرف عليه عن كثب، منذ ان ظهر فجأة في منتصف تسعينات القرن التاسع عشر، بواجهته ذات العناصر غير العادية وقتذاك، وبمشربيته الناتئة Oriel الزجاجية الواسعة في صدر تلك الواجهة. لقد اراد هورتا ان يظهر بوضوح مقاربته التصميمية الجديدة، التى عمل عليها كثيرا؛ هو الذي سبق وان صمم ونفذ سنة 1886 عدة دور سكنية في مدينة مسقط رأسه: "جينت"، لكنه لم يكن راضيا عنها اومقتنعاً بمعالجاتها التكوينية. فقد كان يتوق لتقصي اسلوبا تصميميا بمقدوره ان يعبر عن طموحاته التصميمية ويفصح عنها، والاهم ان يعكس متطلبات وذوق واهتمامات العصر الذي يعيش به. وهو الامر الذي حدا به لان يعتكف عن ممارسة التصميم لفترة خمس سنوات، باحثا ومتقصياً عن تلك الافكار. وعندما شعر بانه جاهز لحل المعضلات التى وضعها لنفسه، وجد في تكليف صديقه استاذ الهندسة "اميل تاسيل" فرصة مواتية لتحقيق افكاره المعمارية الجديدة.
ها نحن، الآن، امام ذلك المبنى، الذي عّد بمثابة "مانفستو" طراز "الآر نوفو"، وبيانه المعماري الجرئ. نتفحص مفردات واجهاته، و"نقرأ" تفاصيله المعمارية المدروسة، المنفذة بحذاقة، ونقارن واجهته مع واجهات مجاوراته. انه ينظر الينا بطوابقه الثلاثة، بقدر ما ننظر اليه. وقد كان "ادونيس" مصيباً جداً، عندما كتب مرة: "لا نفهم الشئ الا اذا رأيناه، بطريقة يبدو فيها كأنه هو نفسه يَرانا!". لكن صنيع هورتا وانجازه المهم، يكمن بالطبع في الداخل، الداخل الحافل بالتفاصيل، والغني في زخارفه التشكيلية، وفراغاته المليئة بالضياء. وطبعا يحضر هناك ولع استخدام المناسيب المتباينة. نحن، اذن، نلتقي مع مخطط لا يشبه البتة مخططات السكن المعروفة وقتذاك.
لم تتهيأ لنا امكانية دخول البيت. كان مقفلاً. بيد ان اجواء دواخل بيت تاسيل وتفاصيلها يعرفها الكثيرون وخصوصاً المعماريين. هم الذين تحضر في ذاكرتهم البصرية "فورم" <سلمه> الشهير، كناية عن كلية "انترير" المبنى، الانترير، الذي يحرص هورتا، ان يكون زائر "بيت تاسيل" مأخوذا مباشرة بحداثة مفرداته التصميمية. فبمجرد تجاوز المرء عتبة الدار نحو الداخل، يوضع في خضم تفاصيل تحفه من كل الجوانب: في الارضية، وفي السقف، من جهة اليمين او من الشمال، من الخلف ومن الامام. لا يدع هورتا عنصرا سواء كان انشائيا ام زخرفياً، الا وكساه بتشكيلات فنطازيا منحنياته: خطوطه الملتوية والانسيابية، المنحنيات التى دعيت في حينها بـ "خطوط هورتا" او بـ "ضربة الكرباج". ثمة اهتمام زائد لمفردة السلم، تلك المفردة التى عادة ما كانت في السابق تغلف بحيطان سميكة، نراها حاضرة الان بوضوح في الانترير، مشكلة جزءا اساسيا من مفرداته التصميمية، وقد اصبغ عليها المعمار جل اهتمامه، مانحا اياها انواع عديدة من التشكيلات الزخرفية المنحنية، وخصوصا سياج الدرابزين، الذي جاءت رسوماته مكتنزة برسوم الخطوط الملتوية. وكل ذلك "يسبح" في اضاءة "مسكوبة" من الاعلى، عبر جزء من السقف الذي غُلف بالقطع الزجاجية المؤطرة بالاطارات الحديدية. ثمة قواطع لا تصل الى السقف تحدد بعض فضاءات الدارة السكنية، وقد وظف المعمار بمهارة اسلوب خاص في توزيع فراغاتها، وهو اسلوب سوف يشي بما يعرف لاحقاً "بالمخطط الحر"، الذي سوف يجعله "لو كوربوزيه"، المعمار الحداثي الرائد، احد مبادئه الخمسة المحددة لعمارة الحداثة.
عندما صمم فكتور هورتا عام 1898-1901 دارته السكنية في بروكسل مع مكتبه الهندسي المجاور، كان في قمة نشاطه المهني. ثمة اهتمام خاص يوليه المعمار نحو اظهار الاختلاف في معالجة واجهتي المبنيين المتجاوريين. فواجهة المكتب "متقشفة" زخرفيا مقارنة بتزيينات الزخرفية المصنوعة من الحديد المطاوع لشبابيك القسم السكني. وبالطبع يظل الهاجس التصميمي الاساسي يكمن في الداخل، الذي اتى على وفرة لا تضاهي من التفاصيل المرسومة بعناية، والتى تتشكل اساسا من اشكال "خطوط هورتا" المنحنية والملتوية والتى نعرفها الآن. 

لا تنبع قيمة فكتور هورتا المعمارية في الخطاب من منجزه التصميمي فقط، رغم أهمية ذلك المنجز وفرادته. انها تنبع ايضا من تأثيره المهني على الآخرين. وكأي مبدع حقيقي ومهم، فقد اثر بمقاربته المعمارية على كثر من معاصريه. وفي بروكسل تحديدا، ظهرت كثير من المباني يحاكي معماريوها قيم ومبادي تلك المقاربة التى رسخها هورتا في المشهد. ويعد مبنى متجر"اولد انغيلاند" <انكلترة القديمة>، (يشغله الآن متحف الآلات الموسيقية)، المصمم في عام 1899، بنوافذه الزجاجية الواسعة واطاراتها الحديدية واشكال زخارفه المميزة التى تستحضر خطوط هورتا "وضربات كرباجه"، مثالا معبرا لتنويعات تلك المقاربة المعمارية شديدة الخصوصية والتميز، التى ساهم في ارساء قيمها المعمار البلجيكي.
 معمار وأكاديمي
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
l